نوفر لكم ترجمة المحاضرة الأولى من دورة مقدمة علم وظائف الأعضاء (Introductory Human Physiology) المقدمة بواسطة جامعة Duke University والمعروضة مجانًا عبر موقع Coursera.
اليوم، سنغوص في مفهوم أساسي لا غنى عنه لفهم كيفية عمل جسم الإنسان: التوازن الداخلي (Homeostasis).
إنها الفكرة المحورية التي تتكامل وتتحد حولها جميع أجهزة الجسم للحفاظ على استقرار بيئتنا الداخلية، وهي الظروف الملائمة لحياة خلايانا.
الأهداف التعليمية
في هذه المحاضرة، سنتناول النقاط التالية:
- شرح النظام الأساسي لجسم الإنسان.
- تعريف أجزاء سوائل الجسم.
- شرح كيفية توزيع الأملاح داخل الجسم، مثل أملاح الصوديوم، الكلوريد، والغلوكوز وغيرها.
- شرح ماهية التوازن الداخلي والآليات المسؤولة عن تنظيمه (وهو ما سنتعامل معه بمزيد من التفصيل في المحاضرة القادمة).
- الحديث عن التوازن الداخلي الشامل وكيف يحافظ الجسم عليه.
مكونات الجسم البشري
دعونا نبدأ باستكشاف مكونات الجسم. كما تعلمون جميعًا، يبدأ جسم الإنسان ببويضة مخصبة.
هذه البويضة تخضع للانقسام لتكوين نسخ متعددة، وتبدأ في التمايز، الذي يسمح بدوره لخلايا معينة باكتساب وظائف متخصصة.
مجموعات الخلايا التي لها نفس الوظيفة المتخصصة تعمل معًا لتشكيل ما يسمى بـالأنسجة. لدينا أربعة أنواع أساسية من الأنسجة داخل الجسم:
- الأنسجة العضلية (Muscle Tissue).
- الأنسجة العصبية (Nervous Tissue).
- النسيج الضام (Connective Tissue).
- النسيج الطلائي (Epithelial Tissue).
هذه الأنواع الأربعة تشكل بدورها الأعضاء. الأعضاء تعمل معًا لأداء وظيفة محددة للجسم. وعندما يعمل أكثر من عضو معًا، نسمي ذلك بالجهاز العضوي.
على سبيل المثال، الجهاز البولي هو جهاز عضوي يتكون من الكلى، الحالبين (اللذين يوصلان البول من الكلى إلى المثانة)، المثانة (حيث يتم تخزين البول)، ومجرى البول (الذي يطرد البول خارج الجسم).
أجهزة الجسم ووظائفها
سندرس عشرة أجهزة عضوية في الجسم، تسعة منها ذات وظائف محددة للغاية:
- الجلد: أكبر عضو في الجسم. وظيفته الأساسية هي الوقاية، حيث يشكل حاجزًا للبيئة الخارجية ويحافظ على المواد الداخلية في نظام. إنه حاجز مهم جدًا لفقدان الماء، كونه كارهًا للماء، ويسمح للجسم بالاحتفاظ بالماء على الرغم من وجود حالات طبيعية لفقدان الماء.
- الجهاز التنفسي: يسمح بدخول الأكسجين وطرد ثاني أكسيد الكربون، مما يتيح تبادل الغازات بين الجسم والبيئة.
- الجهاز الهضمي: يسمح للطعام والمغذيات بالدخول إلى الجسم، ثم يزيل النفايات الصلبة منه.
- جهاز النقل (نظام القلب والأوعية الدموية): يقوم بنقل المغذيات التي تدخل الجسم من القناة الهضمية إلى جميع خلايا الجسم. كما ينقل الغازات القادمة من الرئة -الجهاز التنفسي- إلى جميع أنسجة وأعضاء الجسم. يتم ذلك عن طريق التدفق بكميات كبيرة عبر الأوعية الدموية. بمجرد وصولها إلى الأنسجة، يتم نقل الغازات والمغذيات والمواد المذابة من الأوعية الدموية إلى الأنسجة نفسها عبر مسافة صغيرة جدًا عن طريق الانتشار.
- الجهاز الكلوي (البولي): يزيل النفايات السائلة، والأيونات الزائدة، والمياه الزائدة من الجسم.
- القناة الهضمية: تتخلص من النفايات الصلبة.
سوائل الجسم: الحيز داخل والخارج خلوي
ينظر علماء وظائف الأعضاء إلى الجسم بطريقة مختلفة قليلاً، إذ يقسمون الجسم إلى ما يُعرف بحيز السوائل. لدينا حيزان أساسيان للسوائل:
- حيز السائل داخل الخلية (Intracellular Fluid – ICF): يشمل كل السيتوبلازم، وهو المكون السائل الموجود داخل الخلايا، يمثل هذا الحيز ثلثي ماء الجسم الكلي أو مجموع سوائل الجسم.
- حيز السائل خارج الخلية (Extracellular Fluid – ECF): هو ما يوجد خارج جميع الخلايا، ويمثل الثلث المتبقي من سوائل الجسم.
يختلف محتوى هذين الحيزين بشكل كبير:
- داخل الخلايا (ICF): مستويات عالية من البوتاسيوم، وتركيزات منخفضة جدًا من الصوديوم، وبروتين ذو شحنة سالبة.
- حيز السائل خارج الخلية ECF: تركيزات عالية من الصوديوم، وتركيزات منخفضة من البوتاسيوم.
حيز السائل خارج الخلية ECF يمكن تقسيمه إلى حيزين آخرين:
- حيز السوائل داخل الأوعية الدموية (Intravascular Fluid): وهو السائل الموجود داخل الأوعية الدموية.
- حيز السوائل بين الأنسجة (Interstitial Fluid): وهو الحيز الصغير الموجود بين الأوعية الدموية والخلايا نفسها، وعادة ما يكون مملوءًا بالنسيج الضام.
توازن السوائل وتوزيع الأملاح
لدينا توازن مهم جدًا بين حيز السوائل داخل الأوعية الدموية وحيز السوائل بين الأنسجة. لديهما نفس محتوى الأيونات والمواد الذائبة. على سبيل المثال، كمية الصوديوم في الأوعية الدموية تساوي كمية الصوديوم في حيز السوائل بين الأنسجة.
هذا التوازن يحدث لأن الحاجز المكون من الخلايا الطلائية المحيطة بالأوعية الدموية منفذ جزئيًا، مما يسمح للمواد بالانتقال بين الحيزين وتكوين التوازن الداخلي.
لكن هناك فرق مهم: حيز السوائل داخل الأوعية الدموية يحتوي أيضًا على بروتينات لا توجد في الحيز بين الأنسجة.
ملاحظة هامة: يوجد اتزان بين الحيز داخل الأوعية الدموية والحيز بين الخلايا، ولكن لا يوجد هذا الاتزان بين حيز السائل خارج الخلية و حيز السائل داخل الخلية.
يتم الحفاظ على هذا التباين بين حيز السائل خارج الخلية حيز السائل خارج الخلية وحيز السائل داخل الخلية، في حالة ثبات أو حالة مستقرة (steady state) بوجود إنزيم ATPase، والذي يستخدم الطاقة (ATP) لنقل الصوديوم خارج الخلايا (ثلاث ذرات صوديوم) مقابل إدخال ذرتين بوتاسيوم داخل الخلية.
هذه المضخة تعيد تنظيم توزيع الأيونات وتحافظ على تباين التركيزات.
في حالة الاستقرار، المدخلات تساوي المخرجات، لكن كمية الصوديوم خارج الخلايا تختلف عن كميتها داخل الخلايا، وكمية البوتاسيوم داخل الخلايا تختلف عن كميتها خارج الخلايا.
كمية الماء الكلية في الجسم: حوالي 60% من الوزن الكلي للجسم. إذا كان لدينا فرد ذكر يزن 70 كغم، فإن 42 لترًا من وزنه عبارة عن ماء.
- حيز السائل داخل الخلية ICF: يمثل ثلثي مجموع ماء الجسم، أي 28 لترًا.
- حيز السائل خارج الخلية ECF: يمثل الثلث، أي 14 لترًا.
داخل الحيز السائل خارج الخلية ECF، لدينا السائل داخل الأوعية الدموية (البلازما)، والذي يمثل فقط 1/12 من مجموع ماء الجسم، أو ربع الحيز السائل خارج الخلية ECF.
هذا يعني أن البلازما، على الرغم من أنها جزء أساسي من الدم، هي في الواقع أقل السوائل الموجودة في الجسم كمية.
التنظيم الذاتي: التوازن الداخلي وحالة الثبات
لدينا آليات تنظيم ذاتي تعمل بين هذه الأنواع المختلفة من السوائل:
- الاتزان (Equilibrium): يحدث بين الحيز داخل الأوعية الدموية والحيز بين الخلايا. هنا، يتم توزيع المواد (الصوديوم، البوتاسيوم، الكلور، الكالسيوم) بالتساوي بين الحيزين. لا يوجد نقل صافٍ للمادة أو الطاقة، والحاجز الطلائي بينهما منفذ تمامًا، ولا يتم استهلاك طاقة للحفاظ على هذا الاتزان.
- حالة الثبات (Steady State): تحدث بين حيز السوائل خارج الخلايا وداخلها. هنا، لدينا كمية ثابتة من المواد، والمدخلات تساوي المخرجات، لكن التركيزات تختلف بين الحيزين. يتطلب الحفاظ على هذه الحالة الثابتة طاقة (ATP) للحفاظ على التباين.
حيز السائل خارج الخلية والتوازن الداخلي
لماذا يهتم علماء وظائف الأعضاء كثيرًا بحيز السوائل؟ السبب هو أن الخلايا نفسها تتطلب عوامل معينة لتعمل في مدى ضيق جدًا.
هذه العوامل تشمل: كمية الأكسجين، وثاني أكسيد الكربون، وأيونات الهيدروجين، ودرجة الحرارة، وكمية الجلوكوز. تحتاج الخلايا إلى هذه البيئة المنظمة جدًا.
أثناء حياتك اليومية، يتعرض جسمك لكمية متنوعة جدًا من المواد، وبيئتك تتغير باستمرار. هنا يأتي دور حيز السائل خارج الخلية ECF كمنطقة عازلة.
فكر في الأمر: إذا تناولت شطيرة لحم كبيرة على الغداء، فأنت تُدخل لجسمك الغلوكوز والدهون والبروتين والأحماض الأمينية، هذه المواد ستذهب إلى القناة الهضمية ثم مباشرة إلى الدم، ومن الدم تنتقل إلى جميع خلايا الجسم.
لكن أعضاء الجسم تحاول الحفاظ على ثبات حيز السائل خارج الخلية، والذي يتم نقل جميع المواد إليه بمعدل طبيعي أو ضمن نطاق محدود للغاية.
الحفاظ على ثبات مكونات حيز السائل خارج الخلية ECF نسبيًا هو الفكرة الرئيسية لعلم وظائف الأعضاء، وهو ما يدور حوله التوازن الداخلي.
التوازن الداخلي والصحة والمرض
كل أعضاء الجسم ستعمل على حيز السائل خارج الخلية، للحفاظ على مكوناته في مدى ضيق جدًا يتوافق مع حياة الخلايا.
- في حالة الصحة: عندما تتساوى المدخلات مع المخرجات، ونكون في حالة عافية. في هذه الظروف، طالما أن المواد الموجودة في حيز السائل خارج الخلية ضمن المدى المتوافق مع حياة الخلايا، فكل شيء على ما يرام.
- في حالة المرض: عندما تكون المدخلات أكبر بكثير من المخرجات أو العكس، يحدث خلل يؤدي إلى المرض.
التوازن الداخلي هو توازن صارم جدًا يجب الحفاظ عليه في جميع الأوقات لكي نحافظ على الجسم في حالة نشاط مستمر. إذا لم يؤدِ العضو وظيفته المحددة، فسننتهي إلى عدم تساوي المدخلات مع المخرجات، وبالتالي نحصل على الحالة المرضية.
أنظمة التحكم الموازنة وحلقات رد الفعل
أحد الطرق الرئيسية التي يستخدمها الجسم لتنظيم حيز السائل خارج الخلية، هي استخدام أنظمة التحكم الموازنة أو حلقات رد الفعل. هذه الحلقات اللاإرادية لها ثلاثة مكونات رئيسية:
- الاستشعار (Sensor): يقوم بالكشف عن إشارة معينة أو محفز معين.
- مركز التكامل (Integrating Center): عادة ما يكون المخ، يتلقى المعلومات من المستشعر، ويحتوي بداخله على نقاط محددة تتوافق مع حياة الخلايا. يقوم بتقييم الإشارة الواردة ليرى ما إذا كانت توافق الحالة المحددة التي يحتاجها الجسم أو تجاوزتها أو نقصت عنها.
- المسار المستجيب للمؤثرات (Efferent Pathway) وأعضاء الاستجابة (Effectors): إذا قرر مركز التكامل أن هناك حاجة للاستجابة، يرسل مسارًا مستجيبًا إلى أعضاء الاستجابة -مثل الغدد أو العضلات- والتي تقوم بعمل استجابة لإعادة الجسم إلى الحالة الطبيعية.
هذا مشابه تمامًا لنظام التحكم في درجة الحرارة في منزلك، مركز التكامل هو الترموستات، ونحدد درجة الحرارة المطلوبة.
المحفز هو قراءة درجة حرارة الغرفة، والإخراج هو تشغيل المدفأة أو مكيف الهواء لإعادة الغرفة إلى درجة الحرارة الطبيعية.
مثال على التوازن الداخلي الشامل: استهلاك الصوديوم
دعونا نفكر في مثال واقعي: تخيل أنك تناولت نظامًا غذائيًا مليئًا بالأملاح.
- يوم الاثنين: كمية الصوديوم الواردة من نظامك الغذائي تساوي كمية الصوديوم التي تخرج من الجسم في البول. لدينا توازن طبيعي، حيث المدخلات تساوي المخرجات.
- يوم الأربعاء: تستمر في تناول الأطعمة الغنية بالأملاح (مثل الطعام الصيني مع الكثير من صلصة الصويا)، المدخلات من الصوديوم تتجاوز الكمية المفقودة في البول، يحدث زيادة في الصوديوم في الجسم.
- يوم الجمعة: تعود المدخلات من الصوديوم إلى الخلايا من الغذاء مساوية للكمية المفقودة في البول. نعود مرة أخرى إلى حالة التوازن الطبيعية.
لكن ماذا حدث للجسم؟ على الرغم من عودتنا إلى التوازن في المدخلات والمخرجات، لدينا بالفعل زيادة في كمية الصوديوم الكلية في الجسم. كيف يحدث هذا بينما الجسم يحاول الحفاظ على كميات منظمة جدًا من الصوديوم في حيز السائل خارج الخلية ECF؟
عندما تتناول طعامًا غنيًا بالأملاح، ستشعر بالعطش. عندما تشرب الماء، يدخل هذا السائل إلى الجسم ويخفف الصوديوم، بحيث يبقى تركيز الصوديوم في حيز السائل خارج الخلية متعادلاً (بنفس التركيز الذي كان عليه يوم الاثنين). لكن كمية الصوديوم الكلية التي تمت إضافتها للجسم قد تزايدت.
أين ذهب هذا الصوديوم الزائد؟ لقد ذهب كله إلى حيز السائل خارج الخلية . لا يستطيع الصوديوم عبور غشاء البلازما بسهولة، لذلك يبقى في حيز السائل خارج الخلية.
وأين ذهب حجم الماء الذي شربته؟ ذهب أيضًا إلى حيز السائل خارج الخلية لتخفيف تركيز الصوديوم فيه.
إذن، كل هذا الحجم، وكل حجم السوائل، أصبح داخل حيز السائل خارج الخلية. لقد قمنا بزيادة كمية الصوديوم الموجودة في حيز السائل خارج الخلية، وقمنا أيضًا بزيادة كمية الماء في حيز السائل خارج الخلية، لكننا حافظنا على ثبات تركيز الصوديوم في حيز السائل خارج الخلية.
ولكن ما هي التكلفة؟ ماذا يوجد داخل حيز السائل خارج الخلية؟ قلنا إنه يحتوي على سائل الأوعية الدموية وحيز السوائل بين الخلايا. داخل الأوعية الدموية، لدينا زيادة في حجم الدم.
بزيادة حجم الدم، يزيد الضغط داخل الأوعية الدموية. لذا، بحساب الصوديوم الإضافي والسائل الإضافي، نكون قد زدنا حجم الدم، وبالتالي زدنا الضغط في نظام القلب والأوعوية الدموية.
إذن، هناك تكلفة للحفاظ على حيز السائل خارج الخلية ECF في المدى الطبيعي.
النقاط المستفادة من محاضرة التوازن الداخلي
- جسم الإنسان هو مجموعة مترابطة من أجهزة ذاتية التنظيم، وظيفتها الأساسية هي الحفاظ على البيئة الداخلية في حالة تتوافق مع حياة الخلايا. هذا هو التوازن (Homeostasis)، وهو الفكرة الرئيسية لعلم وظائف الأعضاء، وما تحاول جميع أعضاء الجسم الحفاظ عليه.
- لدينا استقرار للمتغيرات الداخلية، ويمكن تحقيق ذلك بالتوازن بين المدخلات والمخرجات للجسم وبين أجهزة الجسم. ولكن ما نحتاج لتذكره هو أن هناك تسلسل هرمي بين أجهزة الجسم. النظامان اللذان يمكنهما الفوز دائمًا هما المخ والقلب.
عادة ما يهيمنان ويجعلان الجسم يحافظ على ثباتهما. على سبيل المثال، عندما يتأثر تدفق الدم إلى القلب والمخ، فإن تدفق الدم لجميع أجهزة الجسم الأخرى قد يتأثر.
إذن، يوجد نوع من المفاضلة، حيث يتخذ الجسم بعض القرارات التي قد لا تحافظ على ثبات كل شيء في ظل الظروف الصعبة أو الحالات المرضية.
في المحاضرة القادمة، سنتناول جميع الآليات المختلفة التي يمكننا استخدامها للحفاظ على هذا التوازن الداخلي بمزيد من التفصيل.
شكرًا لكم، وإلى اللقاء في المحاضرة القادمة.